السلام عليكم
لقاء الوداع
بدأت الطيور المغردة تطير بأجنحتها, مودعة أغصانها,لتعدها باللقاء من جديد,
حيث لم تزل آثار الخيط الأسود مخيمة على تلك العاصمة,وما زال السكون
المتناثر يخفي جمال الندى المتمايل على الزهور..........
وسط هذا الجليد,ما زالت حرارة الاشتياق تكتنفه وتذكره بالحنين لأهله,
وأحبابه في وطنه,ويبدو أن سنوات الغربة العشر التي قضاها هنا قد فشلت
تماماً في أن تنسيه رائحة الليمون العطرة الممتزجة بعبير الياسمين ,
وأغصان الزيتون اليانعة,التي تصارع في رونقها ما سواها.......
كانت قسمات وجهه, المفعمة بالتحدي وعيناه المليئتان بالحنين وجبينه
المليء بالشوق لشمس بلا غروب تدل على أنه غريب عن هذه البلاد.......
فبعد أن أتم دراسة الطب, أعد حقائبه ليعود إلى أرض وطنه....,
وصل إلى المطار واستعد للرحيل وألقى بنظرة على تلك البلاد ولسان
حاله يقول,ليتني أملك جناحين؛ لأطير وأحلق فتحملني إلى سماء وطني,
لأهدي على أغصان منزلنا الحبيب,ولكنه ما لبث أن ذكر نفسه بأن
مدة هذا السفر لن تكون أقسى من العشر سنوات التي سبقتها,
وبدأ يتخيل ما سيراه من ربوع بلاده,ويتساءل أأنتقل وأنا في السيارة
بين شوارع المدينة أم أستقبل أهلي أولاً,أم أركض بعد أن أصل لتأخذني
قدماي حيث يرشدها قلبي....
وصعدت منه تنهيدةُ مجروحة لتعيد إليه ذكريات الماضي المليئة تارة
بالأحزان وتارة بالفرح, في هذه الأثناء تذكر أمه التي التي ودعت الحياة
بعد صراع مع المرض الذي طاردها وقد شهد بنفسه لحظات احتضارها,
فدعا لها بالرحمة وسرعان ما عاد إليه الأمل حينما تذكر والده الذي أخذ
بيده حتى أنهى الثانوية العامة بتفوق وشجعه على اختيار مجال الطب,
كذلك تذكر أخته الوحيدة التي كانت تصغره بأربع سنوات والتي اختارت مجال الهندسة............
كان مشتاقاً للجميع هناك, خاصة وأنه يصادف عام تخرجه عام تخرج
أخته هدى؛ فسبحان مجمع الأحباب بعد طول غياب ,تجمعهما فرحة
اللقاء والنجاح و الأخوة ؛ فتذكر تلك الأيام التي شهدت لحظات الطفولة
والصبى , وتذكر المنزل الصغير الذي حمل في كل ركن منه ذكرى لا تنسى.....
-هل لك أن تساعدني في حل هذه المسألة الصعبة؟
-لأرى.... يا لها من مسألة تافهة, إن ظني لا يخطىء فأنتي بالطبع لن تفلحي!!!
-سامحك الله, أتقارن طالبة في المرحلة الإعدادية بطالب عبقري في الثانوية العامة مثلك؟!!!!
-لا عليكي..لنحلها سوية.
"الرجاء من المسافرين الاستعداد للنزول"
أيقظته هذه الجملة من الغرق في ماض مليء بالذكريات,
ورغم رغبته في تذكر المزيد إلا أن فرحته بالرجوع جعلته يترك
الماضي وينظر للمستقبل ,وما لبث أن نزل من الطائرة حتى
شعر بأنه حقاً كالطير الذي خرج من أسره وعاد إلى غصنه الحبيب....
كان يود أن يقبل كل ذرة من ثرى وطنه,ويضم نسمات الهواء المتطايرة
إلى صدره ,بل أنه حينما وقع بصره على والده تجمعت كل أشواق
السنوات الماضية وتناثرت الآن, فتعانقا عناقاً حاراً وامتزجت دموع الفرح بآهات الماضي ....
تبادلا الحديث ولم يتوقف أحدهما عن الحديث طوال سيرهما
حتى أقلتهما إحدى السيارات إلى منزلهم في تلك القرية الصغيرة
كان طوال الطريق ينشق هواء بلاده بلهفة غريبة وكأنه طفل اشتاق
لحضن أمه ,وتعلقت عيناه بسماء وطنه التي لطالما أظلته عندما
كانت تدور به آهات المآسي,استمر في تأملاته هذه حتى وصلا إلى الحي ,
وعندما نزل من السيارة تسمرت قدماه ........
هذا الحي الذي شهد أيام صباه وكانت أسواره شاهدة على أحلام
الطفولة,ورأى الأطفال يجددون أيام طفولته ,لكن هناك الكثير من المنازل
التي لم يبقَ منها سوى الأطلال بعد هجوم العدو…
توافد الجميع ليفرح بلقاء هذا الغائب الذي اشتاقت إليه جميع القلوب …………
لكنه ما زال يبحث عنها تلك التي عاشت معه تحت ظل ذلك البيت,أخته هدى ,
لكنه تذكر أن والده قد ذكر له في ثنايا حديثه أنها في مدينة غزة بخصوص
إحدى الوظائف التي تتمنى أن تشغلها خلال الأيام القادمة ....,فصبر نفسه .....
دخلا المنزل وبدأ ينظر وينظر ويتجول في أرجائه, حتى توقف
عند صورة أمه فانحدرت دمعة حارقة من عينيه,تكشف عن طول اشتياق,
فمسحها ودعا لها بالرحمة....
في هذه الأثناء سمعا صوت الرصاص خاصة وأن منزلهم قريب
من المنطقة الحدودية ,فشعرا بالقلق على هدى خاصة وأنها تأخرت ,
وسرعان ما زاد الخطر على تلك المنطقة فأصبحت الشوارع خالية إلا
من صوت الرصاص الذي يبحث عن الأبرياء!!!
أما هي فكانت في طريقها للعودة ،ولكن ..... لم تخطيء قناصات
العدو في النيل منها ومن كثير من الزهور مثلها,فنقلتها السيارة إلى
أقرب مستشفى وتم إبلاغ أهلها بذلك
أسرع الوالد وابنه ليطمئنا عليها, تقدم أخوها ليطمئن عليها ,وهناك
وقعت عيناه عليها ولم تخنه ذاكرته,فالعين وإن لم ترَ الأحباب, لأن ريشة
القلب كفيلة برسمها صورهم في الأعماق.....
سار بخطوات حزينة ليضم أخته إلى صدره,عند ذلك رفعت عينيها لتراه,
وتحركت شفاهها لتحمد الله لأنها رأت أخاها قبل أن يداهمها مفرق الأحباب,
فقبلها بين عينيها,ثم صمت علها تشجيه بصوتها الحاني المليء بعطف
الأخت وصبر الأم,,وابتسمت وقالت له:"لا عليك يا أخي فدمي الذي
ينزف ليس أغلى من هذا الوطن , فلا تحزن وأوصيك أن تكون
رحيم القلب بكل من هم بين يديك من مرضى وترى فيهم هدى أختك"
عند ذلك ذرفت عيناه دموع حارقة,ليتها تتجمع وتكون شفاء لها, وامتزجت
دموعه بدموعها التي كانت باردة فرحة بهذا اللقاء لكنها ما لبثت أن استمدت
حرارتها من قرينتها حزناً على الفراق....
ولاحت أجراس القدر لتعلن نهاية اللقاء وبداية الألم.......,
ودعت هدى أخاها بعد أن لقنها الشهادتين فصرخ بأعلى صوته..
هـــــــدى أختـــــــــــي,,,,,,.......................
لكن ما بيد الإنسان أن يمنع القدر, وألقى عليها نظرة سريعة
واستدعى والده ليودعها,كانت الصدمة شديدةً عليه إلا أنه كان
أشد صبراً من ابنه الذي لم ير بعد نوائباً أشد في هذا الدهر.....
كان عزاؤهم الوحيد أنهم يحتسبوها شهيدة عند خالقها, ولابد أن
يكون اللقاء بإذن الله في الجنة حيث لا فراق.......
عند ذلك نظر الوالد إلى ابنه وتمني من الله أن يعوضه به خيراً بعد هدى....
وغادرا هذا المكان ليكملا درب الحياة, ولم تغب صورة ابنتهم الحبيبة
بعينيها الدامعتين عن قلوبهم, وتجمعت كل اللحظات السابقة
في لحظة واحدة كانت لقاء الوداع...........
,,,,,,,,