في الثامنة عشرة من عمرها كانت اختى الوحيدة والصغرى تعيش حالة حب
وفي مجتمع محافظ كمجتمعنا، وفي بيت تُراعى فيه التقاليد والاعراف، ويُكثر
أفراده الحديث عن الاخلاق والاداب، كان لا بد لأي حديث عن القلب أن يخضع للسرية الشديدة وأحيانا للخجل المربك، ويصبح الاعلان عن المشاعر الخاصة أمرا مستهجنا دون وجود مبرر مقبول لهذا الاعلان، وفي حالة الحب الذي تعيشه بخوف وخجل كانت آخر عناقيدنا تعلم أن إظهار الحب لا بد له من موافقة مبدئية ثم إعلان رسمي.
كانت حصه واضحة جدا حين ابلغت امي أن هناك من يرغب في خطبتها، وأنها تعرفه عن طريق اخته اولا، ثم عن طريق الهاتف ثانيا، وأن الشاب قد صارحها برغبته في التقدم لخطبتها رسميا، لم تبد امي أي اعتراض، بل حددت موعدا لمقابلة الشاب، وبسبب غياب والدي في احدى سفراته الطويلة طلبت من اخي الاكبر استقبال الخاطب، والتعرف عليه، ورغِبتْ حصه في تواجدي اثناء هذه المقابلة، ثم أصرت على حضوري حين اعتذرت بالمشاغل، قالت: هل يوجد شاغل اهم من مستقبل اختك؟!!.
بدا لي في العشرين من عمره، أنيق الهندام، أسمر البشرة، حسن الحديث، وكانت مقابلتنا اشبه ما تكون بزيارات المجاملة، لم نعده بشيء، وطلبنا منه الانتظار حتى نستطيع التعرف عليه اكثر، وكان الرجل متفهما لهذا كله، قلت له: أمهلنا اسبوع، حتى حضور الوالد، وعسى الله ان يقدم الخير للجميع، حين غادرنا سألتني حصه منفردة عن انطباعي عنه، قلت: يبدو انه مناسب، لكن لا بد من السؤال، قالت: طيب، ثم فاجأتني ببعض المعلومات التي تعرفها عنه، وكان من ضمن معلوماتها أشياء عن عائلته، ثم عقبت هذا لا يهم، نحن معتدلون في هذه الافكار، المهم ان تكون اخلاقه عالية، أليس كذلك؟!! سكتُ ولم اعلق، احسست انها تحب الشاب، وأنها ترغب في موافقتنا على خطبته.
بعد يومين، قال لي اخي بعد أن أجرى تحرياته: جيد، يعمل في وظيفه ممتازه، المستقبل امامه واسع، مؤدب، متدين بإعتدال، بعيد عن مساوئ المراهقين، ولكن هناك مشكله.. ولم افهم المشكلة بعد كل ما تقدم حتى قال لي بهدوء: عائلته، هم من وسط إجتماعي اقل، قلت: المال لا يهم، كلنا بدأنا فقراء، إبتسم لي متابعا: بل اقصد الاصل والنسب، وقدم لي بعض التفصيلات.
حين راجعت اوضاعنا الاجتماعية، وعصبياتنا القبلية، تأكد لي إننا نواجه عقبة كأداء وليس مشكلة صغيرة يمكن حلها بالإعتدال كما تتوهم أختي الصغيرة، عقبة لا يمكن الخروج منها الا بتمرد عنيف يبدأ من حصه نفسها، تمرد سأكون انا المعتدل الذي ترتجي عونه اول من يقاومه وربما بعنف شديد، ولكي يخفف أخي من اثر الصدمة ذكّرني بأن امنا ايضا ليست من اصول عربية صريحة، ثم اخبرني ان الرجل وبهدف تعريفنا بعائلته يدعونا الى العشاء في منزله، وافقت لأجل حصه مرة أخرى، فقد اصرتْ ان أقبل هذه الدعوة.
كان بيتهم كبيرا، ولأمر ما احس الشاب ان الموافقة ستصدر مني ان صدرت وليس من أي احد آخر، لذلك بالغ في مجاملتي حتى الاحراج، عرفني بأنسابه كان احدهم اسود اللون (عبد، كما قالت لي نفسي حين رأيته)، وكان الحوار اثناء العشاء سيئا جدا بمقاييس بيتنا حيث نراعي الفاظنا حتى مع اقرب الناس إلينا، ودار الكلام كله حول ما نعتبره سخافات، وأحاديث لا تنفع، ومزح ومداعبات سمجه، حتى طريقة اعداد الاكل وديكور الصالون ونوعية الضيوف لم تناسبني.
حين خرجنا من المنزل، كان وجه أخي مختلفا، سألني عن انطباعي قلت له بنزق: قل لأختك (لا تورطنا) مع هؤلاء الناس…هؤلاء (ما يناسبونا) اطلاقا، هم من طبقة إجتماعية تختلف عنا، هم شيء مختلف، ولأني اعرف امي قلت له: اطلب من امك ان توجه دعوه لعائلته: امه واخواته، وافقت امي ووجهت لهم هذه الدعوة، وحين غادرت عائلة الشاب منزلنا، قالت امي بهدوء..(لأ)..وكانت لاؤها كبيرة جدا، وحاسمة جدا..وبررتها بأسباب إجتماعية بحته.
حين استنجدت بي أختي في اليوم التالي خذلتها بلطف شديد، إعتقدتْ انها اذا اقنعتني فسنستطيع معا اقناع البقية برأينا (وكنت اقدر على ذلك لو اردته) لكن دون جدوى، في المساء اتصلتُ بأخينا دون علمها وقلت له ان حصه لن تتزوج هذا الشاب ابدا، وأن عليه بصفته اخوها الاكبر ان يعتذر له بلباقة وأدب ودون احراج.
بكت حصه، وحاولت دفعي لأكون اقوى من التقاليد العائلية، وحاولت من جهتي إفهامها أن المجتمع اقوى منا بكثير، وأن اهلنا لن يرحموها ابدا، وذكرت لها صادقا أن الاتصالات قد بدأت من بعض اعمامنا مذكرة بأهمية المحافظة على التقاليد، وأهمية ان نكون كما كنا دائما واعيين لقرارتنا بزعمهم، وأن هذه المكالمات تحمل في طياتها صورا غريبه من التهديد، أخيرا وافقت مكرهة على ارائنا، ولم يكن من طبيعتها التمرد، كانت اقرب الى والدي في طبيعته الصابرة منها الى امي في طبيعتها العنيفة..مع مرور الايام احسست انها نسيت الموضوع وحاولنا معا كأخوة إشغالها بالعزائم والحفلات العائلية والموافقة على ذهابها لكل الاعراس الصيفية والمناسبات الخاصة، وبذلنا لها الكثير من اموالنا، وحين حضر والدي لاحقا لم نخبره بشيء، وتعاملنا مع الموضوع وكأنه لم يكن..
بعد سنتين تقدم لها إبن خالها، لم توافق عليه بداية، اصرت على الرفض، واصر ابي وامي على الموافقة بأسلوب الوالدين، أي الالحاح الشديد ومحاولات الاقناع المشوبة بعواطف الرحم والقرابة، وتحت الضغط المتواصل وافقَت، ورفضت انا، كنت اعلم انها توافق مجاملة لهم، وكنت اعلم ايضا ان ابن خالي شاب سيء بأغلب المقاييس، شرحت وجهة نظري لوالدي ولأمي قلت لهم : لا، أنتم تخطئون، لكن حصه خذلتتني بموافقتها هذه المرة، هي ايضا اخطأت: ربما قررت الانتقام لرفضى الاول لكن على حساب سعادتها ، رفضت حضور حفل الخطوبة اولا، ورغم انفي تواجدت في حفل الزواج حتى لا اظهر بمظهر المعارض، لكنهم جميعا كانوا يعلمون اني قلت: لا، بعد سنتين انتهى هذا الزواج بالطلاق دون أبناء.
تزوجت حصه مرة ثانية لاحقا، وانجبت طفلين رائعين، لكني مازلت اشعر انها غير سعيدة، وما زلت احاسب نفسي على خذلاني لها في تلك السنوات التي إحتاجتني معها، هل اخطأت بحرماني لها من الرجل الذي احبها وأحبته؟ هل اصبت؟ لا ادري، ولا اعرف كيف كانت ستكون العواقب لو لم اعترض، لربما كانت اليوم اكثر سعادة، واكثر جمالا وفرحا.
سنوات مرت على هذه القصة، وحين زرتها مؤخرا طلبت مني ان اوصلها الى السوق، واصرت ان انزل معها ونتمشى امام الناس من محل الى محل، وعبرت أيضا عن رغبتها في أن نتعشى معا في مكان عام، فعلتُ هذا كله مجاملة لها، وأخذا بخاطرها كما نقول في الخليج، حين عدنا الى بيتها قالت لي: لم تسألني لِمَ طلبت منك كل ذلك؟ قلت: عادي، اخوك، وأحببت المشي معي، بس!!!، ضحكت وقالت: لا..ليس هذا فقط، لكني احببت ان تشير إلي البنات والنساء في السوق، ليقولوا لبعضهن، وبينهن وبين انفسهن: حظها هذي المره…زوجها حلو..، ما يدرون انك اخوي، ضحكت قائلا: القرد في عين امه غزال، إبتسمتْ كما تبتسم الامهات حين يفخرن بأبنائهن، وحين ودعتها قبلتني على خدي ويدي وهي توصيني بعاطفة جارفة الا اقطعها من الزيارة…حين ركبت سيارتي عائدا .. دمعت عيناي ….
ليتني لم اخذل حصه